الأحد، 13 أبريل 2014

الكتاب التاسع و العشرون : الغريب

ألبير كامو (7 نوفمبر 1913 - 4 يناير 1960) فيلسوف وجودي وكاتب مسرحي وروائي فرنسي-جزائري , ولد في قرية الذرعان بالجزائر، من أب فرنسي، وأم أسبانية، وتعلم بجامعة الجزائر، وانخرط في المقاومة الفرنسية أثناء الاحتلال الألماني، وأصدر مع رفاقه في خلية الكفاح نشرة باسمها ما لبثت بعد تحرير باريس أن تحولت إلى صحيفة Combat "الكفاح" اليومية التي تتحدث باسم المقاومة الشعبية, واشترك في تحريرها جان بول سارتر. ورغم أنه كان روائيا وكاتبا مسرحيا في المقام الأول, إلا أنه كان فيلسوفا. وكانت مسرحياته ورواياته عرضا أمينا لفلسفته في الوجود والحب والموت والثورة والمقاومة والحرية، وكانت فلسفته تعايش عصرها، وأهلته لجائزة نوبل فكان ثاني أصغر من نالها من الأدباء. وتقوم فلسفته على كتابين هما ((أسطورة سيزيف)) 1942 والمتمرد1951 أو فكرتين رئيسيتين هما العبثية والتمرد ويتخذ كامو من أسطورة سيزيف رمزاً لوضع الإنسان في الوجود، وسيزيف هو هذا الفتى الإغريقي الأسطوري الذي قدّر عليه أن يصعد بصخرة إلى قمة جبل، ولكنها ما تلبث أن تسقط متدحرجة إلى السفح, فيضطر إلى إصعادها من جديد, وهكذا للأبد، وكامو يرى فيه الإنسان الذي قدر عليه الشقاء بلا جدوى، وقُدّرت عليه الحياة بلا طائل, فيلجأ إلى الفرار أماإلى موقف شوبنهاور : فطالما أن الحياة بلا معنى فلنقض عليها بالموت الإرادي أو بالانتحار، وإما إلى موقف اللآخرين الشاخصين بأبصارهم إلى حياة أعلى من الحياة, وهذا هو الانتحار الفلسفي ويقصد به الحركة التي ينكر بها الفكر نفسه ويحاول أن يتجاوز نفسه في نطاق ما يؤدي إلى نفيه, وإما إلى موقف التمرد على اللامعقول في الحياة مع بقائنا فيها غائصين في الأعماق ومعانقين للعدم, فإذا متنا متنا متمردين لا مستسلمين. وهذا التمرد هو الذي يضفي على الحياة قيمتها, وليس أجمل من منظر الإنسان المعتز بكبريائه, المرهف الوعي بحياته وحريته وثورته, والذي يعيش زمانه في هذا الزمان : الزمان يحيي الزمان.
الغريب (بالفرنسية: L'étranger) رواية للكاتب الفرنسي ألبير كامو، صدرت سنة 1942. تنتمي إلى المذهب العبثي في الأدب. وهي جزء من سلسلة دورة العبث التي تتكون من سلسلة مؤلفات و هي رواية (الغريب)، مقال (أسطورة سيزيف) ومسرحيتان (كاليغولا وسوء المفاهمة) تصف جميعها أسس الفلسفة الكأموية : فلسفة العبث. تمت ترجمة الرواية إلى أربعين لغة.
لقد اختار( كامو) لطرح فكرته عن كارثة هذا الرجل الهش ، الذي نجده في الحياة بشكل متكرر ووافر ، وقد يتوزع في أجزاء من الوجوه والشخصيات ، ليجعل روايته بسيطة في طرحها المباشر ، عميقة في تأطير وتعميق ورسم أبعاد هذه الشخصية ، المعقدة والغريبة ، فبطل القصة ، والسارد بصيغة ضمير المتكلم ( أنا) ، ( ميرسول ) ، رجل (غريب) الطباع ، و(الغريب) كما يظهر من عنوان الرواية من الغرابة وليس من الغربة ، فالكلمة (غريب ) لاتحيل المتلقي إلى معنى الغربة، بمفهومها الاجتماعي أو المكاني ، بل تستند للبعد النفسي ( الغرابة) ، فـ (ميرسول) شخص غريب أي خاص ومختلف ، وليس مميزا ، ولامبهرا ، ولاناجحا فهو موظف بسيط ، اضطر إلى وضع أمه في الملجأ ،لأنه لايستطيع رعايتها ، وتحمل نفقاتها ، كما أن عمله لايسمح له بالجلوس مدة طويلة معها ،فهو إذن لم يختر هذا الجزء من حياته ، ولم يرتب له ،فالظروف كانت سببا في ذلك ، ولكونه فقيرا ووحيدا ،وضعها في الملجأ ، فكونها أصبحت في الملجأ جاءت نتيجة فقط ، والنتيجة دائما حتمية للسبب ، وغير قصدية وهذا ماكان ، وهو لافرق لديه فلو كان يملك المال لفعل غير ذلك ، فلربما أبقاها معه ، أو استأجر من يقوم بخدمتها ، ولكنه لايملك .
ثم تموت هذه الأم ، ويكون لزاما عليه أن يحضر مراسم دفنها ، وهو ليس لديه مشكلة مع موتها ، لأن هذا ماكان سيحدث يوما ما ، كما أن هذا التوقيت في الموت ليس أسوء من غيره ،ولم يرغب بان يرى وجه أمه قبل الدفن ، بل دخن سيجارة عند جثمانها ، ثم نام حتى الصبح ، كما أرهقته فكرة الدفن ، والجنازة، ففيها مشقة كبيرة خاصة وان الجو حار ، ولكن هكذا كان الدارج في دفن الموتى .
لقد تجاوز ميرسول الإحساس المباشر بالأشياء ، كما تجاوز فكرة الثقل الشعوري ، كالحب الشديد والحزن الشديد ، فهو لاشك حزين على موت أمه بالدرجة التي كان يحبها ، ولكن بالمستوى الأفقي من الشعور ، وبلا شدة واحتدام عاطفي يجعل رتم حياته السائد والعادي يتغير .
ففي نفس الليلة يتعرف على (ماري ) الفتاة التي كانت تربطه شبه علاقة بها ، منذ مدة ، فيقضي معها وقتا ممتعا ، بأن يذهب معها للاستحمام ثم يذهبان للسينما .. ولكنه مع هذا لايشعر أنه يحبها. ( وبعد هنيهة سألتني ما إذا كنت أحبها ، فأجبتها أن لامعنى لذلك ، لكن يبدو لي أنني لااحبها ) ، مع أن وجوده معها يشعره بنوع من الراحة ، لكن ربما يحصل ذلك مع وجود أي امرأة أخرى .
فكأن هذا الكائن قد تخلص بوعيه الحسي ، ومأساة مشاعره المتأصلة عميقا في ماضيه ، وفجوات عمره المليئة بالحزن والأسي، من القوة والاندفاع الشعوري ، ومن اللاعادي في مستوى العاطفة ، وفي تذوقه للأشياء ، فلم يعد قادرا على الوصول بذاته لمرحلة القوة في الاختيار، والتفرد في الشعور ، فكل الأشياء سواء .
وحتى حين تعرض عليه ماري الزواج يكون رده عاديا ” فقلت أن لاأهمية لذلك ، وأن في الإمكان أن نتزوج فيما إذا ترغب في الزواج” .
وهكذا يدور القسم الأول من الرواية الذي يتألف من ست فصول في تفصيل سردي دقيق أشبه برسم فنان دقيق ، لايغفل أيا من التفاصيل الدقيقة ، والحيثيات الحياتية البالغة الدقة في الوصف ، مثل الملابس والوجوه ، وتفاصيل اشتباكات جيرانه (سالامانو) العجوز مع كلبه ، وريمون مع نسائه ، أو حدة طباع صاحب العمل ، مما يبرز قوة السرد في رسم مشاهد الأحداث بدقة ، وتحديد ملامح هذا الكائن كثير الغياب ، والذي يواصل تأملاته في تفاصيل الأشياء كما هي ، في انسجام تام مع وجودها الطبيعي ، وموقعه منها الذي لايهتم لتغييره مثلا .
ثم يريد كامو لهذا الكائن المحكوم بالهشاشة والضعف والوعي الذي انتزع منه كل درجات الاختيار، أن يتصاعد في تلاشيه في اللامعقول والعبثية واللاجدوى ، حيث في القسم الثاني من الرواية يحصل على عزومة من جارة (ريمون ) لقضاء وقت مع أسرة صديقه في جزيرة بصحبة (ماري) ، وفي تلك الجزيرة يستمتع (ميرسول) بأن يعيش الحياة بشكل آخر في التشمس ، والحب والأكل ، والصداقة ، والاستمتاع بالطبيعية ، ولكن بلا تصاعد في حدة ووتيرة شعوره العادي أيضا .
غير أن مجريات الأحداث تسير به نحو بؤرة العمل الروائي ( القتل ) ، فصديقه (ريمون) كان قد تورط في مشاجرة بسبب امرأة ، فيتبعه شقيق تلك الفتاة متوعدا إياه ، وفي لحظة من الغياب واللاحضور ، يقرر ميرسول تخليصه منه فيطلق بطريقة غريبة على ذلك الرجل رصاص الموت ، وكأنه يقرر في لحظة ما أن يقرر .. أن يختار .. أن يفعل شيئا ما .
فيدخل ميرسول السجن ، وهو غير مدرك أن مافعله كان مختلفا هذه المرة ، فما فعله لم يكن مقصودا حقا ، قتل الرجل لأنه خاف أن يقتله أو يقتل صديقه ، لقد قتله باعتيادية وتدفق للأفعال الطبيعية بلا اختيار ، كما كان يأكل حين يجوع ، و ينام حين يتعب .
يبدأ مشواره في السجن ، ويبدأ في وصف تفاصيل المحاكمات ، وكأنه خارج الحدث ( القتل ) ، كما يصف السجن مأتلفا تماما مع مكانه الجديد ، كأن لاقدرة له على الرفض والتذمر ، والكره والحقد ، والرغبة في الحرية والسعادة . ” وجدت نفسي أفكر بماري .. وقلت في نفسي إنها ربما تعبت من كونها حبيبية شخص محكوم بالإعدام ، كما فكرت أيضا بأنها ربما كانت مريضة ، أو أنها ماتت .. وذلك من طبيعة الأشياء .. ومنذ تلك اللحظة أصبح تذكاري لماري غير ذي اعتبار عندي ، وحتى لو ماتت فإن موتها لايهمني ، لقد وجدت ذلك أمر طبيعي ، كما أدركت جيدا كيف أن الناس سوف ينسونني بعد موتي ، إذ لاشأن لهم بي ، إذ ذاك ، حتى أنه ليس في مقدوري القول بأن من القساوة التفكير في مثل ذلك . ”
ويأتي الحكم عليه بالإعدام ،ليجد لديه نوع من التبرير لهذا الحادث المروع للآخرين ، إلا أنه يرفض الكاهن ، و يقرر أن يحتفي بالموت الذي اعتبره الخلاص من حياة قاسية ومؤذية ولم يحقق فيها ما يريد ، اعتبر الموت هو الحياة القادمة والأجمل ، ” لقد عشت بطريقة معينة ، وكان بإمكاني أن أعيش بطريقة أخرى .. كنت طيلة الوقت كأني أنتظر هذه الدقيقة وهذا الفجر .. لاشيء لاشيء اطلاقا كان ذا أهمية عندي ، وكنت أدرك ذلك جديدا … فيم يهمني موت الآخرين أو محبة الأم .. ولسوف يحكم على الآخرين أيضا بالإعدام ذات يوم ، وهو أيضا سوف يساق إلى الموت .. إن كلب سالامانو كان أكثر قيمة من زوجته .. والفتاة الآلة كانت مذنبة كالباريسية التي تزوج منها ماسون ، أو كماري التي كانت راغبة في الزواج مني .. وماذا يهم إذا كان ريمون صديقي ، مثل سيليت الذي يفضله بكثير ، وماذا يهم إذا ماسلمت ماري ثغرها اليوم إلى ” موريو” ……”
إن هذا التساوي يهبنا الدلالة الأبعد للفكرة الألم ( كارثة الوعي ) التي تتفرع في جزيئاتها المتفرقة عن فكرة الحزن الذي يسود الكائن كله ( عذابات الكائن الهش ) ، مساويا لديه موازين الكائنات ، ويشمله باعتيادية الفقد ، والتماهي مع أبعاده القاسية ، فلاشيء يستحق مرارة البحث ، أو حرارة نضج العاطفة، وبلوغها مدارات الاكتمال ، ولا الوقوف عند مثاليات الخصب الروحي المتمثلة في القيم السامية .
فلا رهانات مسبّقة ، ولا حقائق ثابتة ، تجعل هذا الكائن المبتلى بالجزع والخوف من الانتهاء القريب ، يتمسك في تلابيب حياة ناقصة أصلا ، بل لعل هذا القرار الفجائي الفجائعي يكون أكثر رأفة ورحمة ، من ذلك التمدد الفج على مداخل ناقصة للحياة ، وللكائنات وللأشياء ، ليأتي الموت حالة من السلام ، والرحمة تشمل هذا الكائن ، وتفجر داخله ينابيعا من الأمل في الآتي المجهول ، فهي مغامرة جديدة ، وبعيدة عن تكرارات طويلة .. ” وقد شعرت بأنني كنت سعيدا ، وبقيت سعيدا ، تأكيدا مني للتشابه ، بل للإخاء القائم بيني وبين لامبالاة العالم ، ومن اجل انتهاء كل شيء .. ثم من أجل الشعور بأنني كنت أقل وحدة وانعزالا ، كان عليّ ، أن أتمنى لو يكثر المتفرجون ، يوم تنفيذ حكم الإعدام بي ، ولو يتلقونني بأصوات الحقد والضغينة ”
وهكذا استطاع كامو أن يجسد هذه الفكرة الوجودية المحضة ، عبر وسيط الكائن الهش ، ليحقق بين الثالوث المتكون جبرا لذة التلاقي الحي ، لاغيا الحواجز بين رفعة الموت حين يجئ مفاجئا ، وبين رمادية الحياة حين تنزح للحيلولة دون الكائن وإنسانيته ، التي تصادرها الكائنات والأشياء الجبرية سماوية كانت أو أرضية .
إن هذه الفكرة لا تتطلب الترويح لها ، لكونها قائمة حقا في عصر المادة الذي تعيشه الكائنات الآن ولو في بعض جزئيات من الزمن والفكرة ، فتناول البير كامو لها في قالب فني روائي ، يهدف تقديم عمل متفرد، يمثل تجسيدا مشغولا بعناية ، لما تقدمه هذه التجربة / الحالة في مؤداها الشعوري المؤذي في نهاية الأمر ، من اندياحات للموت الشعوري البطئ ، والتجمد العاطفى طويل المدى .
إنه يهدف لجعلنا نعايش اضطراب هذه الشخصية وأوجاعها ، لبيان الفخ العبثي الذي قد يصل له الكائن في لعبته الموجعة (الحياة) ، من أجل رفض الانحدار التدريجي لتلك الهوة ، و الانتصار عليها من خلال التشبث بالأمل ومقاومة دواعي الانجراف ، ولذلك كانت هذه الرواية من أسباب وصول ( كامو) لنوبل .
لينك للتحميل :


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق